عندما كنا في الجامعة، كان الشطرنج من الهوايات المشتركة بيننا. وكان لنا صديق يلعب الشطرنج باقتدار شديد هو وأبوه. كان الأب أكثر احترافاً وبالطبع أكثر هدوءاً، وكان الهدوء والسكينة يسريان في كل تصرفاته وخلجاته قبل وأثناء اللعب، وذلك حتى يتعرض للهزيمة. عندها يتحول إلى وحش كاسر يكشر عن أنيابه ويطالب بحقه في “مباراة ثانية” (ترجمة لكلمة rematch طبعاً لو قلت “إعادة المباراة” هاقولك صفر من عشرة).
ذات يوم، حضر لجلسة الشطرنج شخص جديد، يُدعى “زغلول”. طبعاً نحن جميعاً حكمنا عليه من خلال اسمه وافترضنا إنه “بلوظة” في الشطرنج. صبر زغلول على نظراتنا وهمساتنا وتهربنا المغلف بالذوق من ملاعبته. وفجأة، تحدى زغلول والد صاحبنا. تعلل زغلول بأن والد صديقنا من سنه، وطبعاً كلنا أدركنا أن الأخ ليس بلوظة فقط، وإنما شيكولاتة سايحة ومش فاهم أي حاجة في الشطرنج لدرجة إنه ما عرفش أن والد صاحبنا هو أكثرنا احترافاً.
المهم ما أطولش عليك، والد صاحبنا قبل التحدي وبدأ زغلول في اللعب باللون الأبيض. شاط زغلول أول كرة وحرك بيدق المركز إلى e4 (مش مهم، حتى لو ما بتلعبش شطرنج، كمّل الحكاية). طبعاً والد صاحبنا كان مشاركنا في وجهة نظرنا إن زغلول ده عبارة عن بلح أحمر وما ينفعش يكون اسم لاعب شطرنج كويس. استهتر والد صاحبنا وقام بحركاته الافتتاحية برعونة بهدف “تخليص الدور بدري”. وكانت النتيجة غراب اسود حلّق فوق رءوسنا جميعاً.
أتاري زغلول ده مش زغلول أبداً وإنما ديك حبشي “شرس” سيطر على الدور بكفاءة فائقة واستغل الافتتاحية التعبانة لوالد صديقنا وخلص عليه. بعد عدة حركات أدرك والد صاحبنا إن زغلول ليس فقط لاعباً ماهراً وإنما يتميز بأسلوب هجومي يقطع الأنفاس وعينه على “راس الملك” من أول حركة. طبعاً انهزم والد صاحبنا في موقعة من طرف واحد، ولأنه أدرك أن زغلول ممكن ينتف ريشنا كلنا لم يطلب “مباراة ثانية”، وإنما أصابه غضب شديد من مسألة أخرى، وهي إن زغلول لم يعرفه بنفسه وبمستواه في الشطرنج قبل أن يبدءا اللعب حتى ينتبه لذلك ويضعه في الحسبان.
كل واحد فينا كان فمه مشدوهاً ويكاد فكه يسقط على الأرض من شدة الاستغراب والدهشة.. إيه “زغلول” ده؟ وإزاي عرف يضحك علينا كلنا كده؟ أما من طرفه، فقد كان زغلول منتشياً في سريرته، ويبدو أنه استمتع بخداعنا أكثر من استمتاعه بلعب الشطرنج.
وعندما وجّه له والد صاحبنا سؤالاً مباشراً: “إنت إزاي ما تعرفنيش بنفسك وتقولي مستواك إيه علشان أعرف ألعب معاك كويس؟؟” رد عليه زغلول في هدوء قاتل: “وإنت ليه ما سألتنيش؟ وليه لما غابت المعلومة عنك افترضت إني ما باعرفش ألعب؟ على العموم المسألة بسيطة، أديك عرفت مستواي وممكن ألعبك دور أو أكثر كمان”..
طبعاً رفض والد صاحبنا لأنه عارف إن الموضوع “خلصان” ولكنه قال في لهجة حادة لم تلطف منها محاولتنا لتهدئته: “أنت خدعتني يا زغلول”.. عندها خرجت من فم زغلول حكمة من تلك التي تعلق في ذهن الإنسان وتظل في ذاكرته طوال حياته.. “أنا لم أخدعك.. وإنما ساعدتك في خداعك لنفسك.. وفي كل الأحوال.. هو خداع مشروع”.
صارت حكاية زغلول والخداع المشروع هذه مثار حديثنا لسنوات عديدة.. وصارت الحكمة التي تعلمناها منها تتناقلها الأجيال في الشطرنج وربما في نواحٍ كثيرة في الحياة.. “إذا غابت المعلومة، فلا تفترض”.
“إذا غابت المعلومة، فلا تفترض”. بالفعل نصيحة غالية وحكيمة. أعتقد أن الكثير من الناس يقعون ضحية إفتراضاتهم وأرائهم المسبقه عن الآخرين أو أي شيء في الحياة. أنا شخصيا أحاول أن أعمل بهذا المبدأ قدر ما أستطيع. كالعادة أجد كتاباتك ملهمة يا أستاذ جمال.
“اذا غابت المعلومة لا تفترض ”
كم من المشاكل وقعنا فيها بسبب الإفتراضات
سؤال لأستاذنا الكبير جمال عمارة هل تعتقد إن امثال زغلول من الناس
يعتبروا نصابين فى حالات مشابهة للحالة المذكورة سلفاّ ؟
شكرا أستاذنا على المقالة الجميلة و فى إنتظار المزيد
كل عام و انت بخير
بسادة
أهلاً بسادة..
ومرحباً بك في أول مشاركة في مدونتي.. 🙂
فعلاً مشاكل كتير في حياتنا تقع لنا لأننا نفترض شيئاً في غير محله. وبالتأكيد إذا استغل الشخص الآخر هذا الافتراض لصالحه فهذه عدم أمانة.
ولكن ما حاولت لفت الانتباه إليه في هذه المقالة هو أن الشخص الذي يفترض هو المخطئ.. وهو الذي يجعل من نفسه عرضة للخداع.
أشكرك يا بسادة على زيارتك.. وكل عام وأنت بخير.. 🙂