كان صوت فيروز الملائكي يصدح من بعيد.. “طيري يا طيارة طيري يا ورق وخيطان.. نفسي إرجع بنت صغيرة ع سطح الجيران..”
لم يكن غريباً أن يثير صوت فيروز شجوني، فدائماً ما يفعل.. ولكن الغريب هو تداعي الأفكار الذي أثارته هذه الأغنية في نفسي..
لم يكن صعباً على ذكائي أن أفهم أن مضمون الأغنية هو الحنين إلى الماضي.. إلى الأيام الجميلة.. الأيام “الذهبية”.. فكأن فيروز تستدعي من مخزون ذاكرتها كيف كانت بنت صغيرة تطيّر الطائرة الورقية.. وقتها لم يكن لدينا حلم سوى الطيران.. التحليق في الأعلى.. السباحة مع الطيور التي تستأثر لنفسها بالسماء..
ولكن ما استعصى على فهمي المتواضع حقاً هو لماذا تريد فيروز أن ترجع طفلة صغيرة على سطح “الجيران”.. (طب ما احنا عارفين كويس إن ابن الجيران مش ها يعدي الموضوع بالساهل وها يعمل لنا مشاكل 🙂 ). وظل تفكيري السمج يتخيل الدافع الذي جعل مؤلف الأغنية يجعل فيروز تلجأ إلى بيت الجيران لتطير الطائرة الورقية.. هل كان يعلم أن بيت فيروز بدون سطوح.. ولا كان صاحب البيت بتاعهم مأجر السطوح ومانع حد يطلع عليه أو يربي عليه وز وبط.. ولا هل هو “اتزنق” في القافية ولم يجد شيئاً ينفع مع الورق والخيطان غير ابن الجيران، عفواً بيت الجيران؟ كان ممكن أن يقول مثلاً.. نفسي إرجع بنت صغيرة زي أيام زمان.. ولو إنها مش راكبة كويس والميزان الشعري مكسور إلا إنه بكده ها يضمن إن الناس ما تخدش فكرة وحشة عن فيروز..
المهم إن فكرة الحنين إلى الماضي جلبت إلى خاطري أغنية أخرى كنت أسمعها كمقدمة لأحد المسلسلات التليفزيونية.. كانت صاحبة الأغنية جميلة الصوت تشدو قائلة.. “يا روايح الزمن الجميل.. هف هفي”.. وظل تداعي الأفكار يجلب لخاطري العديد من التعابير والأغاني التي تتحدث عن “الماضي الجميل”، حتى أنني تذكرت تعبيراً مشابهاً في اللغة الإنجليزية حيث يقولون the good ol’ days.. يعني الفكرة مش مقصورة على ثقافة معينة.
لماذا يحن الإنسان إلى الماضي.. هل لأنه كان أجمل، أم لأننا كنا أصغر ولم تكن تثقل كاهلنا الأعباء التي نحملها الآن؟ لقد كانت الأخلاقيات أفضل في الماضي، بالتأكيد. وأنا أقصد الشهامة والكرامة والنخوة وغيرها من تلك الصفات الحميدة. كان ارتباط الأبناء بآبائهم واحترامهم لهم أفضل كثيراً مما هو الآن. كانت الجرائم أقل ونوعيتها أخف.. و .. و..
على الجانب الآخر، فإن الحاضر أفضل من أوجه كثيرة.. فالكمبيوتر موجود ويتطور بسرعة مذهلة، وكذلك الطب أفضل، والهندسة، و.. و..
الشيء المهم أن الحنين للماضي شيء، وأن يسجن الإنسان نفسه في الماضي شيء آخر. وسجن الإنسان لنفسه في ماضيه مسألة أكثر شيوعاً مما نظن.. والمشكلة أنها تحدث على مستوى الدول، وربما الأمم. ربما يكون من المنطفي أن نتحدث عن الماضي حتى نستلهم منه دوافع للتعامل مع الحاضر، أما أن نتحدث عن الماضي على أساس إنه “تعويض” عن عدم نجاحنا في الحاضر فتلك مسألة خطيرة. فكلما نواجه مشكلة في الحاضر، نتخيل ما كان يحدث في الماضي.. وخلاص.. وربما نضيف للخليط شوية “جلد ذات”.. وبكده نكون عملنا تعادل ونكمل في الحاضر كما هو بدون تغيير..
نحن نعيش في الحاضر.. واجترار الماضي لن يفيد..
اشطب عبارة “كنت هناك زمان”.. واستخدم بدلاً منها “أنا هنا الآن”..
وحتى إذا كان الواقع مؤلماً، فإن الهروب منه إلى الماضي.. أو “الخروج من الزمن” بالتخيل أو السرحان أنك تعيش في عصر آخر.. لن يفيدك في شيء..
لقد عاش أجدادنا حياتهم.. والمطلوب أن نعيش نحن أيضاً حياتنا.. ونجاحهم أو إخفاقهم لن يفيدنا بشيء إذا لم نحقق نحن النجاح لأنفسنا وبأنفسنا..
هذه مقالة رائعة, فهي تعرض فكرة هامة بأسلوب متميز وممتع كما عودتنا. وأما بشأن تلك الفكرة فأرى أن الحنين إلى الماضي غالباً ما يطغى علينا عندما تعصف بنا الهموم والأحزان فنفر من الحاضر إلى الماضي, ولكن ما يجب أن نضعه نصب أعيننا هو ألا نحزن على الأمس فهو لن يعود فبين أيدينا اليوم, وإذا كان اليوم سيجمع أوراقه ويرحل.. فلدينا الغــد ..فلنتطلع إلى المستقبل بأعين مليئة بالأمل 🙂
بصراحة أنا مش عارفه اقول ايه ؟؟؟
فالمقاله رائعة جدا جدا وبها من المعانى الكثير و الكثير ..
وكما تعودت منك يا ابى ان افهم الكثير من كلمات قليله
فقد اعطيت المعلومة مغلفه بمقاله جميله و مضحكة
فامتعتنى واضحكتنى و افدتنى و علمتنى …
جزاك الله كل الخير و الصحة و العافيه و ادامك لنا سعيدا هانئا ..
مقالة رائعة….
ولو أني لا أحب سماع الكثير من الأغاني…
لم أجد رداً على هذا الموضوع سوى كلمات قليلة قرأتها على أحد مواقع الشبكة…
عجيب هو أمرنا
نكره الماضي
ولكننا
نفكر به وكأنه جزء منا….
عجيب هو أمرنا
نهرب من الماضي
ولكن
تشهد كل شرايين دمنا
أنه
يعيش فينا…
عجيب هو أمرنا
نقول الماضي وراءنا…
لكن
لماذا كلما واجهتنا مشكلة
لابد أن يكون الماضي هو أحد أسبابها….
ألهذه الدرجة
نحن نعيش فيه ويعيش فينا…..؟
إلى متى……
سنعيش……سجناء الماضي……؟؟؟؟؟
هل عندما….تحين لحظة موتنا….
أم أن لحظة موتنا قد بدأت……منذ أن قررنا العيش……..في الماضي…..؟؟؟…….
بصراحة..
هذا التعليق.. وهذه الكلمات.. أجمل كثيراً من المقالة 🙂
شكراً يا أحمد على زيارتك.. وعلى تعليقك..
[جزاك الله خيراً. بالطبع يجب أن نعيش اليوم، لا الأمس ولا الغد. فالأمس ماض وانتهى والغد غيب لا يعلمه إلا الله. ولكن هناك شيءآخر يمنعنا من المضي قدماً وهو أن نخشى أن يعيد الماضي نفسه.إن من يمر بهذا الشعور لا يمكنه رؤية نور الشمس بل هو مسجون في ظلمة الليل.
ربما المسألة أبسط من ذلك سيدي. أذكر أن إبراهيم ناجي قال ذات مرة
“كل شئ صار مرا فى فمى… بعدما اصبحت بالدنيا عليما
أه من يأخذ عمرى كله… ويعيد الطفل والجهل القديما”
هذه المرارة.. هذه المعرفة المؤلمة هي ما يجعلني أحن للماضي. أحن للأيام التي كنت أجهل فيها الكثير عن تدني أخلاقيات الناس. الطفولة بالنسبة لي هي فترة لا يمثل فيها الجهل عيباً. نعمة هو ذلك الجهل القديم.
مغزى المقالة واضح للغاية ويتمتع بقدر كبير من الواقعية
لا بد لنا ألا نقول “كان” و”كنا”
إن الاعتماد على الذكريات لا يعطي فرصة لتحقيق أية إنجازات في المستقبل
انظر دومًا للأمام، فالنظر للخلف لن يفيد بل يمكن أن يوقعك في حفرة لن تستطيع الخروج منها.
جزاك الله خيرا
أشكرك على هذه المقالة الجميلة. فعلاً لا داعي لأن نظل سجناء ماض مضى وانقضى ولكن علينا أن نخرج منه بعبرة فلا يملك إنسان أن يتنكر للتاريخ الذي صنعه. يقول أوينز لي “الحنين إلى الماضي درس في النحو، نتعلم منه أن المضارع البسيط ما هو إلا ماضي تام!”