النظر من جانب واحد

عندما كنت في المدرسة الابتدائية، كانت “أبلة” الحساب نسخة مصغرة من الشيطان الرجيم.. 🙂 كانت في منتهى القسوة والعصبية، ولا تجيد شرح أي شيء.. وتضرب الأطفال بقسوة غير مبررة. كانت حصة الحساب بالنسبة لي “عذاب مقيم”. فلم تكن تمر حصة واحدة بدون ضرب أو تهديد أو وعيد. لذلك، لم يكن شيئاً مستغرباً أن أكره الحساب والرياضيات. من أجل الإنصاف لم تكن هذه الأبلة تختصني بالمعاملة السيئة وحدي، وإنما كان هذا هو الـ “ستاندارد” بتاعها 🙂 ولأن الله لطيف بعباده.. كانت حصة اللغة العربية “نسمة صيف” بالنسبة لي. كانت الأبلة هادئة وتعيد شرح القاعدة أكثر من مرة، وتعامل الأطفال معاملة إنسانية.

لذلك، لم يكن من المستغرب أن أحب اللغة العربية أكثر كثيراً من حبي للرياضيات والحساب. وعندما انتقلت إلى المدرسة الإعدادية، استمر نفوري “المكتسب” من الرياضيات رغم أن الأستاذ كان أفضل كثيراً. وعندما وصلت إلى الصف الثاني الثانوي، فررت من فصل “العلمي” إلى الأدبي، رغم تفوقي في الفيزياء والكيمياء والأحياء. فقد حسمت أبلة الابتدائي المسألة مبكراً 🙂

عندما كنت أحكي عن هذا النفور من الرياضيات كان معظم المستمعين يستغربون، لأن البرمجة تحتاج إلى ذهن رياضي في الأساس 🙂 . لا أدري، لا أعاني من التفكير في المشاكل البرمجية وحلولها، ولكن الرياضيات الصريحة “تجعل القشعريرة تسري في بدني” gives me the creeps 🙂

المهم..

وأنا في المرحلة الإعدادية، أخبرني أخي الأكبر بلغز رياضي أثار دهشتي وفضولي.. وعلمني درساً غاية في الأهمية في بداية حياتي.. ولازال هذا الدرس يؤثر في حتى الآن..

(طبعاً لغز كنا نتداوله وأنا في الإعدادية 1972-1975 أكيد ها تكونوا تعرفوه أو على الأقل سمعتم عنه، ولكن ليس المهم اللغز، وإنما المغزى من ورائه 🙂 ).

قال أخي:

كان هناك ثلاثة أصدقاء يسيرون في وسط البلد عندما مروا على محل للأجهزة الكهربائية. رأى الأصدقاء “مذياعاً” 🙂 جميلاً وقرروا شراءه. دخلوا إلى المحل فلم يجدوا صاحبه وإنما وجدوا “الصبي”. فسألوه عن ثمن الراديو فقال لهم 30 جنيهاً. عندها أخرج كل واحد منهم 10 جنيهات ودفعوها للصبي وأخذوا الراديو وخرجوا به من المحل.

وفور خروجهم عاد صاحب المحل فأخبره الصبي بما صار. فقال الرجل حرام.. هذا الراديو ثمنه 25 جنيهاً فقط. وأخرج من الخزينة خمسة جنيهات وطلب من الصبي أن يلحق بالأصدقاء الثلاثة ويعطيهم الخمسة جنيهات.

عندما خرج الصبي.. قرر –كالعادة- أن يتذاكى وقال في نفسه “يجب أن أطلع من هذا الموضوع بأي نفحة” 🙂 فأخذ لنفسه 2 جنيه وأعطى الأصدقاء الثلاثة 3 جنيهات.

فرح الأصدقاء بهذه الجنيهات الثلاثة وفرقوها على بعضهم فأخذ كل واحد منهم جنيهاً.

اللغز..

كم دفع كل واحد من الأصدقاء؟

دفع 9 جنيه.. في البداية دفع كل واحد 10 ثم استرد جنيهاً.. يعني دفع 9. صح؟

طيب.. 9 في 3 يساوي 27. صح؟

كم أخذ الصبي؟ 2 جنيه صح؟

طيب.. 27 زائد 2 يساوي 29.. صح؟ فأين الجنيه الباقي؟

توقف.. واقرأ اللغز مرة أخرى.. (لا تقرؤه وأنت صائم.. 🙂 ).

لكي تحل اللغز.. اعكسه.. وخذه من الطرف الآخر..

الأصدقاء دفعوا 30.. صاحب المحل أخذ 25.. الأصدقاء استردوا 3 جنيهات.. الصبي أخذ 2 جنيه.. يعني تمام.

أما عندما تنظر إليه من الطرف الآخر.. الأصدقاء دفعوا 27 والصبي أخذ 2 يعني 29.. يعني مش تمام 🙂

طبعاً أخذت هذا اللغز وعرضته على جميع أصدقائي وحتى على مدرسي الرياضيات في المدرسة.. ولم أتمكن من الوصول إلى إجابة شافية (حتى الآن، على الأقل).. 🙂

أما الدرس الذي تعلمته فهو درس غالٍ وقيّم..

بعض المسائل لا تصلح أن تنظر لها من جهة معينة.. وإلا بدت ملغزة وغير مفهومة.

إذا أردت أن تفهم هذه المسائل، فعليك بالنظر لها من الجانب الصحيح.

وهكذا كلما مررت بموقف يستعصي على الفهم، أحاول أن أنظر إليه من جوانب أخرى ولا أصمم على النظر إليه من الجانب المستعصي. وقد فوجئت في الكثير من المرات عندما وجدت أن الموقف فعلاً يتبع تسلسلاً منطقياً واضحاً، ولكنني كنت أنظر إليه من الجانب غير المناسب.

نفس الكلام ينطبق بشدة على العلاقات الإنسانية. بعض الناس لا يمكن أن تفهمهم أو تبرر تصرفاتهم إذا نظرت إليهم من جانب معين، بل يتعين عليك أن تجد الزاوية الصحيحة للتعامل معهم.

(يعني مثلاً أبلة الحساب إياها لا يجب النظر إليها على أنها من جنس البشر، وإنما من السلالة الفضائية التي هبطت إلى الأرض وتعطلت سفينتها وحُكم عليهم بالبقاء في الأرض مدى الحياة 🙂 ).

تذكر أن عقلك قد يقودك دائماً إلى المسار الذي اعتاد عليه. لا بأس بهذا في معظم الأحيان، ولكن إذا وجدت أن هذا المسار لا يقدم لك تفسيراً منطقياً، فربما عليك أن تفكر بشكل مختلف، أو تنظر للمسألة من وجهة أخرى.

على سبيل المثال، انظر إلى الصورة التالية:

من الطبيعي أن ترى المنظر الطبيعي 🙂 فهذا هو ما يعرفه عقلك وما اعتاد عليه، ولكن دقق هل ترى شيئاً مختلفاً؟

انظر أيضاً إلى الصورة التالية:

هذه الصورة أصعب قليلاً.. تأمل وقل لي ماذا ترى.. 🙂