هذه التدوينة للمترجمين من المستوى المتوسط.
وصلني تعليق منذ عدة أيام استحضر إلى ذهني مثلاً إنجليزياً شهيراً أؤمن به بشدة، وهو:
Familiarity breeds contempt.
طبعاً إذا كنت أحد العاملين في مجموعتنا، فأنت بالفعل تعرف مدى تبجيلي لهذا المثل وإيماني به. ورغم أنني أعرف المثل منذ كنت في الجامعة، فإنني بدأت أتأمل فيه مرة أخرى. إذا لم تكن تعرف المثل، فتوقف قليلاً وحاول ترجمته.
بحسب مستوى ودقة الترجمة التي تسعى إليها، وبحسب ما هو متاح لديك من وقت، من الممكن أن يكون الأضمن في حالات مثل هذه أن تتأكد من معنى كل كلمة. أنا أفعل هذا كثيراً، ومن يدري، ربما تندهش من غرابة المعاني التي قد تجدها. ابحث مثلاً في معنى كلمة familiarity وحاول إخفاء دهشتك من أحد معانيها المتأخرة (المعنى الخاص بـ “الحرية”).
نحن هنا بصدد المعنى المألوف لكلمة familiarity وهو “الألفة” أو “الحميمية”.
كلمة breed لها معانٍ كثيرة، ولكن إذا استبعدنا معاني التناسل والتربية، سنجد أن المعنى الأقرب هنا هو “يسبّب” أو “يولّد”.
الكلمة الأخيرة contempt من الكلمات المريحة التي تخلو من المفاجآت “ازدراء احتقار قلة احترام”.
إذاً، فالترجمة المتوقعة للمثل هي “الألفة تسبب الاحتقار”، أو “الألفة تولد الازدراء”.
وبعد أن طرأ المثل على ذهني وجدتني أسأل نفسي:
But does familiarity really breed contempt?
لم أكذّب خبراً وكتبت هذا السؤال في جوجل (جوجل يتلقى ملايين الأسئلة كل يوم، ولا أعتقد أنه سيجد صعوبة في هضم سؤالي 🙂 ).
وفي نتائج البحث، وجدت موقعاً رائعاً يتحدث عن علم النفس، وهو PsyBlog، وفيه وجدت مقالاً جميلاً عن موضوعنا (يمكنك أن تقرؤه هنا). ووجدت افتتاحية المقال نموذجاً جيداً للتدرب على الترجمة متوسطة الصعوبة. تقول الافتتاحية:
Why Familiarity Really Does Breed Contempt
People’s intuition is that learning more about a new acquaintance will lead to greater liking. In fact, on average, we like other people less the more we know about them.
“Hell is other people.” — Jean-Paul Sartre
“I only drink to make other people seem interesting” — George Jean Nathan
“Fish and visitors smell in three days.” — Benjamin Franklin
Given how irritating other people sometimes are, it’s surprising how many of us are eternal optimists about forming new relationships. Indeed people seem primed to like others: the ‘mere exposure effect’ is a robust social psychological finding demonstrating that just being exposed to someone causes us to like them more.
في الواقع، يحتوي هذا النص على “تشكيلة” من المشاكل المعتادة التي يمكن أن يصادفها المترجم في عمله اليومي. من فضلك توقف، وترجم النص بنفسك قبل أن تقرأ تحليله في بقية التدوينة. إذا لم تتدرب، فلن تتقدم :).
دعنا نبدأ..
العنوان: طبعاً لاحظت أنه سؤال غير مباشر. قاوم رغبتك في ترجمة كلمة Why هنا بـ “لماذا”.. لن أقول لك إنها خطأ، ولكن الأصوب أن تترجمها “السبب وراء أن” أو “السبب في أن”..
الجملة الأولى: لو فكرت تمشي مع التركيب الإنجليزي ها تلاقي نفسك مع الأخ اللي طردته في التدوينة السابقة :).
عندما أصادف جملاً مثل هذه، أفكر أولاً في الوصول إلى “المعنى العميق” لها، ولا أحاول تتبع التركيب بدقة. الجملة ببساطة تقول إننا نعتقد أن معرفة المزيد عن شخص ستزيد حبنا له ولكن الواقع غير ذلك.
المطلوب هو ترجمة المعنى، بأقرب وأدق صورة ممكنة، وبتركيب عربي سليم. هذا هو تحدي الترجمة على أية حال.
ربما تجد أن المعنى الإنجليزي واضح للغاية، ولكن المعنى العربي قد يمثل لك تحدياً بعض الشيء بحسب مستوى خبرتك، خاصة تركيب less the more. حاول مع الجملة قبل قراءة بقية التدوينة.
بعد ذلك، يأتي الاقتباسات الثلاثة. والاقتباسات من الأشياء التي أحب ترجمتها لأنها في الغالب تكون صعبة وتتطلب البحث لمعرفة السياق، ولكن بعضها يكون سخيفاً فعلاً. لحسن الحظ، لا توجد سخافة هنا، وإنما صعوبة فقط. وعليك أن تتحرر قليلاً في الصياغة حتى تتمكن من كتابة عربي مفهوم.
الاقتباس الأول معروف ومشهور للغاية “الجحيم هو الآخرون”. لقد درسنا “سارتر” في السنة الرابعة في الكلية في مادة “الحضارة” ولازلت أتذكر بعض العبارات الشهيرة له التي كانت تثير المناقشات حامية الوطيس بيني وبين زملائي وكانت تشغل بالي. خذ مثلاً عبارته الشهيرة: The universe is both gratuitous and contengent.
أما عبارته الواردة هنا “الجحيم هو الآخرون” فقد اشتهرت إلى درجة أن التفكير فيها يعد إضاعة للوقت.
العبارة الثانية لذيذة (ومضحكة) فالراجل -الذي لا أعرفه- بيسكّر طينة علشان يقدر “يبلع” الناس. والله معاه حق بعض الناس لا يمكن قبولهم وأنت في كامل قواك العقلية :).
أما العبارة الثالثة فهي فعلاً “غلسة”.. المعنى الذي يريد صاحبنا أن يقوله هو “يا بخت من زار وخفف”. فالزوار مثل السمك “بتطلع ريحتهم” بعد اليوم الثالث. تخيل أنك تركت السمك خارج الثلاجة فإنه سيصدر رائحة “نتنة” وكذلك الزوار إذا طالت زيارتهم! الراجل هو اللي بيقول مش أنا. أعتقد أن هناك مثل صيني بنفس المعنى، يمكن حسام بيومي يتذكر أكتر (حسام واحد من تلاميذي النجباء في الترجمة 🙂 ).
الفقرة الأخيرة فيها “كلكيعة”.. حكاية الـ mere exposure. كلمة exposure حسب ما أعرف تعني “التعريض” وهو مأخوذة من صناعة الصور الفوتوغرافية وهي نسبة تعرض الفيلم الخام للضوء عند تحميض الصور، وكنت باترجمها كده في فوتوشوب لأن المقصود كان نفس المعنى، زيادة تعريض الصورة يعني زيادة كمية الضوء فيها. لكن هنا طبعاً “تعريض” ممكن تودي القسم 🙂
توقف وترجم النص ترجمة كاملة، قبل أن تقرأ ترجمتي المتواضعة:
السبب في أن الألفة تسبب الاحتقار حقاً
الناس بالفطرة يظنون أن معرفة المزيد عن شخص جديد عليهم تزيد من حبهم له. ولكن الواقع يقول إننا، في المتوسط، يقل حبنا للآخرين كلما زادت معرفتنا بهم.
“الجحيم هو الآخرون” — جان بول سارتر
“إنما أثمل فقط كي أجعل الآخرين يبدون ممتعين” — جورج جان ناثان
“الزوار مثل السمك تفوح رائحتهم بعد ثلاثة أيام” — بنجامين فرانكلين
إذا أخذنا في الاعتبار إلى أي مدى يمكن أن يكون بعض الناس مزعجين، فمن المثير للدهشة أن الكثيرين منا لا يزالون متفائلين دوماً حيال تكوين علاقات جديدة. في الواقع، يبدو الناس وكأنهم مهيئون لمحبة الآخرين: إن تأثير “مجرد الظهور” من الاكتشافات النفسية الاجتماعية القوية التي تبين أن مجرد ظهور شخص أمامنا يجعل حبنا له يزيد.
لاحظ كيف أنني استخدمت كلمة “يظنون” في الفقرة الأولى. هذه الكلمة زائدة وغير موجودة في الأصل، ولكني أرى أنها تفيد النص لأنها تعطي الإيحاء بأن ما يليها خطأ (وهذا هو لب الموضوع). ولو أردت التزاماً أكثر بالنص كان من الممكن أن نقول “فطرة الناس هي أن معرفتهم” ولن تكون خطأ ولكنها قد تكون غير مألوفة بعض الشيء.
لاحظ أيضاً كيف تخلصت من تعبير greater liking ولم أقل مثلاً “تؤدي إلى حب أعظم” لأنه سيكون في هذا مبالغة غير مستساغة (من وجهة نظري طبعاً). وأخيراً لاحظ تبسيط عبارة less the more..
لاحظ كذلك تعبير “مجرد الظهور” في الفقرة الأخيرة. فكرت في البداية في استخدام “مجرد التواجد”، ولكن هذا هو أفضل ما توصلت إليه، وكلي آذان صاغية لمن يدلو بدلو أعمق. اقرأ المزيد عن هذا التأثير في ويكيبيديا هنا.
..
موضوع شيق جدا
ولكن لماذا احس بان الهدف منها ليس البحث في المواضيع اللغوية بقدر ماهو توصيل رسالة
موضوع مهم جدا بصراحة قلبا وقالبا
متابع جديد..
وما هي -في رأيك- هذه الرسالة؟ 🙂
السلام عليكم أستاذ جمال،
حقاً مقال جميل ومفيد لنا جميعاً كما تعودنا. وبالطبع، ترجمة حضرتك تجمع بين السلاسة والدقة في نقل المعنى. لي فقط تحفظ صغير على استخدام عبارة “في المتوسط”، وكنت أفضل استخدام “في المعتاد” أو “عموماً” أو “عادة”.
كما أنني سعيد بالمناقشات الدائرة حول الترجمة وأتمنى أن تزيد وتتضاعف من أجل استفادة الجميع، وأعبجني اجتهاد Ms hope في البحث كثيراً.
جزيل الشكر لحضرتك على الجهد الكبير.
Mr Gamal Emara
Thanks for taking the trouble to give us feedbacks. I want to make clear the idea I mentioned wasn’t intended as a translation for the term “mere exposure” otherwise I would’ve said it. Rather, I wanted you to measure it’s relatedness to the subject as a whole so that it can be used as a possible alternative in different positions of articles handling the same theory,eg, we can’t use the same rendering of the term as far as “songs” are concerned because we don’t “see” songs.
I’m also trying to guess how the researcher coined the term in light of what he believes. (this is something I often do whenever possible and I don’t know how much it’s right, before translating I wonder why in the first place did he say so, what are the potential connotations he meant ” “us to get?” “mere+exposure” as individual words denote “Few+knowledge even though connotations they carry may be debated.
By the way, the third article has taken a brand new course in this blog. So organized, highly academic, a reference in itself.
Thanks again for your efforts.
Ms hope
Your comment is both detailed and focused and surely enriches the discussion and the original post.
I am amazed at the depth of analysis you conduct on the source text.
You are right about using different alternatives according to context, for we surely cannot use “مجرد الظهور” in the context of songs 🙂
By the way, I guess “مجرد التعرض”, as suggested by Mohammad Osman, is a better translation of the term, and it can be used in most contexts and not context-specific like “مجرد الظهور”..
Thank you for your remark about my third article. However, I now expect a long and detailed comment there 🙂
لحظة 🙂 ، (رأيي بصراحة)الموضوع شيق، والتحليل رائع، ولذلك هناك فكرة لا أملك إلا أن أعرف رأي حضرتك فيها (وبعدها أعود لفصلي) 🙂 .
فهمت من خلال الرابط المتصل بوكيبيديا والبحث في القواميس أن هذه الظاهرة مرتبطة بقلة التكرار، كما جاء في مثال “الأغنية” التي نحب أن نستمع إليها كلما تكررت لبضع مرات ولكن إذا زادت مرات التكررا عن هذا قل حبنا لها.
ولهذا استخدم الباحث كلمة expose: والتي من معانيها get to know مقترنة بكلمة mere والتي من معانيها few لذلك قد يكون هذا مقصده few knowledge بمعنى “معرفة سطحية” بالشخص أو “مجرد التعرف إلى الشيء أو الشخص”.
وهو بذلك لا يتعارض مع بقية الموضوع، فالإنسان بالفطرة ينجذب إلى الآخرين في بداية تعرفه إليهم. ويظن خطئاً أنه إذا تعمقت هذه المعرفة (وصلت درجة الألفة) زاد حبه لهم، ولكن ما يحدث هو العكس.
أرجو معرفة رأي حضرتك
وأشكرك على استضافة تعليقاتي وعلى المجهود الذي تبذله لإفادة المتعلمين.
أمل..
مصطلح mere exposure يعني مجرد أن يظهر الشخص أمامك.. وكما نفهم من بقية المقالة الأصلية، فإن مجرد ظهور أشخاص معينين أمام بعض الطلاب جعلهم يحبوا هؤلاء الأشخاص (بدون أي معرفة بهم) أكثر ممن لم يرونهم أصلاً.
أعتقد أن كلمة Knowledge من الأسماء غير القابلة للعد non-countable، وبالتالي نستخدم معها Little، كما قال ألكسندر بوب A little knowledge is a dangerous thing.. 🙂
تعليقاتك ووجودك في المدونة محل ترحيب..
“المترجم المتوسط” واضح إن هذه التدوينة تكبرني ببضع سنوات. ولذلك لن “أجادل” بشأنها. ولكني قرأتها واستوعبت منها ما استوعبته وبدأت بتطبيقه عملياً.وسألتزم بالفصل بتاعي. بعد إذن سيادتك يا أستاذ.
لماذا قالوا بأن رفع الكلفة مجلبة للاستخفاف ؟
يظن الناس أن مزيد من التقرب إلى معارفهم الجدد كفيل بزيادة قدر محبتهم في أنفسهم. غير أن أغلب التجارب علمتنا أن ذلك القدر من المحبة يتضاءل كلما عرفنا المزيد عنهم.
“الجحيم هو الآخرون” – جان بول سارتر
“لا أثمل إلا لأستسيغ الآخرين” – جورج جان ناثان
“الضيف مثله كمثل السمكة…تفوح رائحته بعد أيام ثلاثة” – بنجامين فرانكلين
إن طبيعة الآخرين التي تجعلهم مزعجين أحياناً تدفعنا إلى الاندهاش من حرص الكثير منا على تكوين علاقات جديدة معهم. والحقيقة أن الإنسان مفطور على محبة الغير والميل إليه: فتفترض المباحث النفسية الاجتماعية أن ما يسمى بـتأثير “مجرد التعرض” يدفعنا إلى الانجذاب إلى الغير أكثر كلما رأيناه.
ملحوظة:
– مصطلح ‘mere exposure effect’ مر علي وأنا أقرأ كتاب “التفضيل الجمالي” للدكتور شاكر عبد الحميد
– رأيت أن أربط بين Familiarity والكلفة أو التكلف أي عكس التباسط
– أرى أن استخفاف أو اعتياد أقرب هنا إلى أن تكون المقابل العربي لكلمة Contempt
تعليقك أستاذ العزيز ؟؟
محمد عثمان
محمد..
اسمح لي أهنئك على جرأتك وعلى ثقتك بنفسك لأنك نشرت ترجمتك وكنت مستعداً لتقبل آراء الآخرين حولها. هذه شجاعة ليس من السهل توفرها 🙂
وأشكرك على إخباري برأي الدكتور شاكر عبد الحميد في ترجمة المصطلح.
ولكن طبعاً لن أعلق على الترجمة بشكل تفصيلي لأن هذا سيضعني في ورطة. فلو فعلت لوصلت إلى عشرات الترجمات للتعليق عليها 🙂
لكن من الواضح طبعاً ثقتك في نفسك في اختيار مفرداتك، وأسلوبك العربي -كالعادة- مميز..
اختياراتك لألفاط بعيدة عن معناها القاموسي مبنية على قرارات واعية من طرفك (مثل اختيار “استخفاف” و “عدم الكلفة”) وبالتالي لا بد من احترامها، وإن كان لي تحفظ عليها وعلى التصرف الزائد في بعض الأحيان.
وبالمناسبة (المباحث النفسية) دي قريبة المباحث الفيدرالية؟ 🙂
تحياتي،،
تحياتي استاذنا وأشكرك على ما كتبته تعليقا على الترجمة وانت كنت اتحفظ على عبارات الاطراء بطبيعة الحال!
انت علمتني أن أخرج بالنص الأجنبي من أسره لأدخله في إطار عربي لا يضيع المعنى ولا المحتوى ولكن يضفي عليه رونقا عربيا …وهذا ما قمت به
في انتظار المزيد من تجاربك مع الترجمة
محمد
محمد عثمان..
ما تقوله صحيح، وقد نجحت أنت فيه إلى حد كبير، ولكن التحدي هو أن نفعل هذا مع الاقتراب قدر الإمكان من النص الأصلي.
على سبيل المثال، أنت تستخدم كلمة “يتضاءل” بدلاً من يقل، وتستخدم كلمة “ضيف” بدلاً من زائر، وتستخدم كلمة “تفترض” بدلاً من تبين..
لو استبدلت هذه الكلمات، لاحتفظت الترجمة بأسلوبها العربي المميز وفي نفس الوقت كانت أقرب كثيراً من النص الأصلي.
هذا إضافة إلى أنني لم “أبلع” أن familiarity هي عدم الكلفة أو أن contempt هي استخفاف 🙂
ولكن كما نقول دوماً، الترجمة وجهة نظر، وقد أكون أنا متشدداً في المحافظة على النص في وجهة نظر مترجم آخر.
المهم.. ها تروح السودان؟ 🙂
أستاذي
أسعدني تعليقك وأسعدني أكثر اتصالك اليوم
وبالتأكيد أنا “الكسبان” من الاثنين !!
لحد دلوقتي المنتخب هو اللي في السودان
بس مين عارف يمكن الحقه في جنوب افريقيا !!
تحياتي
محمد
عمرى ما زهقت أبدا وأنا بقرأ أى موضوع أو ترجمه لحضرتك
حقيقى بأستفاد كتير أوى
وأكيد مفيش أى نقاش على ترجمتك الجميلة
فى إنتظار الموضوعات المفيدةالتى لا تخلو _كعادتك_من الحس الفكاهى الجميل