أردت ذلك النهار أن أكون من أصحاب النوق.
توقفت عند الباب لحظة. ثم دفعت بكلتا يدي الستائر البلاستيكية وخطوت خطوة واحدةً كاملةً إلى الداخل.
كأنما أردت أن أفاجئ نفسي. وقد كان.
فقد اقتحمت رئتي دفقة من الهواء البارد المنعش المحمّل في كل ذرة من ذراته برائحة الصنوبر المبهجة.
“أكرم الله من صنع هذا”.
دخلت بخطوات مدبرة سلفًا إلى أسفل القبة. كأنما أردت أن أحاذي مركز جاذبيتي مع مركز جاذبية المكان.
لم يكن بالمكان كثير بشر، فلم أشغل بالي بمن تبعتني أعينهم.
رجعت إلى مكاني المعتاد.. ودخلت “الكهف”.. حتى نهايتها.
فاجئني القارئ بقصة العزيز.. ولكنه لم يبدأها من أولها. بدأ عندما صار يوسف هو العزيز.
لا أدري كم مرة مررت فيها بهذه السورة.. مئات؟ ربما.. ولكن اليوم سمعتها بأذن جديدة.
“قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله”.
لم أتمالك نفسي. فقد مست “الشكوى” وترًا شديد الحساسية. فعلت كما أفعل دومًا.. أهرب بأفكاري بعيدًا عن مشاعري.
كررها القارئ عدة مرات.. “إنما أشكو بثي وحزني إلى الله”..
وكأنما يريد أن يجهز على ما بقى من مقاومة لدي. وقد أوشك أن يفعل.
يا عم الحاج خلاص.. هو إنت جاي النهاردة مخصوص علشان تنكد عليا.. كمل يللا علشان تلحق تخلص القصة قبل الآذان..
هربت بأفكاري في اتجاهين: “منطقي” وترجماني..
المنطقي لا مقام له هنا.. وأما الترجماني.. آه.
كثيرًا ما أسرح في الترجمة وفي نقل المعنى.. أول ما خطر على بالي:
I complain of my sadness to Allah.
طب وفين “إنما”..
I only complain of my sadness to Allah.
ربما grief أفضل هنا..
I only complain of my grief to Allah.
وأين “بثي” يا محترم؟
قرأت هذه الآية كثيرًا من قبل.. وربما كانت سببًا في انهمار الدموع على وجنتي في المناسبات العصيبة. ولكني لم أفكر أبدًا في كلمة “بثي” هذه.. أشعر بها وبمعناها.. ولكني لا أستطيع أن أصيغ هذا المعنى بكلمة مقابلة.
إنما أشكو بثي وحزني إلى الله..
هل تستطيع أن تخمن معناها؟
رجعت إلى البيت.. وكان أول ما فعلته هو أن بحثت في ترجمة “يوسف علي”:
I only complain of my distraction and anguish to Allah
لأ.. كده ها أزعل.. طب anguish ممكن نبلعها.. لكن إيه distraction دي؟ مش طالبة معايا distraction خالص..
لم أشعر بهذا المعنى عند قراءة الآية أبدًا.
فين لسان العرب؟
بحثت عن “بثث” ففوجئت بأن الكلمة لها معانٍ كثيرة، منها النشر والتفرق والكثرة..
“وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً”.. “وزرابي مبثوثة”.. “هباءً منبثًا”.. ومنها “البث” الإذاعي أو التلفزيوني
ربما هذه المعاني هي التي أوحت ليوسف علي بهذه الترجمة؟ ولكن ما يتبادر إلى الذهن من كلمة distraction هو “التشتت” وربما “اختلاط الأمر”
لا أعتقد أن هذا معنى قريب لما توحي به الآية.
ثم وجدت ضالتي..
والبَثُّ: الحالُ والحُزْنُ
والبَثُّ: الحُزْنُ والغَمُّ الذي تُفْضِي به إِلى صاحبك
هكذا أفضل كثيرًا..
البث هو الحزن والغم الذي تفضي به إلى صاحبك.. هذا أقرب ..
والآن.. عرفت معناها.. ترجمها بقى يا فالح 🙂
انتقلت إلى موقع “مجمع الملك فهد لطباعة المصحف”.. وهناك وجدت ترجمة لا بأس بها..
“I only complain of my grief and sorrow to Allâh”
كان الله في عون من يتولى مهمة شاقة مثل هذه.
“إنما أشكو بثي وحزني إلي الله”..
رحم الله من أثار البث والحزن في نفسي.
أنت أستاذ جمال لا تكتب أنت تصور بل أنت من ابرع من صور المعنى بالحروف على الأطلاق …. فسبحان من وهبك
صدق الكلمات يمس القلب, أنار الله قلبك وحفظه من كل سوء.. ت
كالعادة .. تتوقف كلماتى .. عندما اعطيها امراً للرد عليك ..
ربنا يجازيك خير بجد ..
ربنا يريح بالك ..
يا رب .. ربنا يطبطب على قلبك ..
شكرا لك استاذ جمال
انت دوما رائع يا استاذ جمال
رابط “لسان العرب” لا يقبل الوسائط.
عندما يظهر الموقع، اكتب “بثث” في مربع النص ثم انقر “ابحث”..