كلمة واحدة تكفي

WordCloud
في الجامعة، كان صديقي الأعز، عادل، مصممًا على أنه يتحدث الألمانية بطلاقة بسبب زيارة مزعومة لألمانيا. وبالطبع لم يكن لدينا ما ندحض أو نؤيد به هذا الادعاء، فنحن لم نكن معه حين زارها، ومعلوماتنا عن الألمانية كانت معدومة تمامًا.

وظل صاحبنا يحدثنا عن مغامراته في ألمانيا ويخلل حديثه بعبارات ألمانية غير مفهومة بالنسبة لنا ويستمتع بأن يعقبها بشرح (“ودي بالألماني طبعًا ومعناها كذا..”).

اعتبرناه مرجعنا فيما يخص ألمانيا والألمانية. ولازلت أذكر كيف كان بعضنا يتطلع إليه بسذاجة سائلاً: يا ترى في ألمانيا بيعملوا إيه في الحالة دي يا دولة؟ وبغض النظر عن الموضوع، لم يكن صاحبنا يتردد في أن يقدم لنا شرحًا وافيًا مفصلاً عن الألمان وعاداتهم وأفكارهم تجاه ما سألنا عنه.

حتى أتى اليوم الموعود.

كنا في زيارة لبرج القاهرة ووجدنا مجموعة من السياح ودودي الملامح. تبادلنا معهم نظرات شديدة التوق للتواصل، فتجاوبوا معنا بنظرات مشابهة. وكان أول سؤال -بالقطع- هو:

Where are you from?

جاءت الإجابة مفاجئة ومبهجة لنا: We are from Germany.

قشطة يا حاج عادل.. جت لحد عندك.. فرصتك ومحدش ها يشاركك فيها.. يللا يا “دولة” ورينا الحلاوة.

تنحينا جميعًا جانبًا وأفسحنا لزعيمنا الفرصة كاملة لكي نستمتع بالحوار الذي لن نفهم منه شيئًا. لكننا كنا واثقين في زميلنا وواثقين في أنه سيتعطف علينا بالترجمة في الوقت المناسب.

بالتأكيد كان من الممكن أن “نكح” مع الألمان بالإنجليزية -التي كانوا يتحدثونها أفضل منا- ولكنا بلا شك سنترك لديهم انطباعًا أقوى عندما نتحدث معهم بلغتهم الأم.

ياللا يا دولة.. قلتها له مشيرًا ومفسحًا الطريق.

كانت نظرات الألمان حائرة وملامحهم يعتريها العجب ولسان حالهم يقول من هذا الشخص الذي يبجلونه بهذا القدر ويفسحون له الطريق هكذا؟

رمقت ترددًا غير مفهوم في زميلنا، أعقبه بأن أشاح بوجهه وقال: “لا كلموهم إنتوا إنجليزي ما هم بيفهموكم أهه.. أنا خلوني لما تتزنقوا”.

إزاي يا دولة.. ادخل يا راجل واتكلم معاهم.. دول ها يفرحوا أوي..

أنا (منبريًا لتقديم عدولة بالشكل اللائق):

My friend has been to Germany, and he speaks German very well.

أُسقط في يد عادل حين عاجله أحد السائحين بعبارات ألمانية متتالية ولكن من الواضح أنها بسيطة.

دولة لا ينبس ببنت شفة.

يا جدعان استنوا يمكن ما سمعش كويس.

دولة أخيرًا ينطق بجملة متكتكة ومتعككة ومتلكلكة لا توحي بأنها تنتمي إلى اللغات الآدمية أصلاً، فهي تحتوي على أصوات غير موجودة في قاموس الأصوات الدولي.

السائح (في صدمة هائلة لنا جميعًا):

What is he trying to say?

لا.. لا.. الناس دول أكيد مش من ألمانيا.

حاول تاني يا دولة..

دولة: ككع منت سبأبأ مشتن راكيل مندولين.

أنا: مندولين؟ دا إيه الألماني المتعاص شيكولاتة ده؟

السائح:

Is he all right?

أنا: لا ما بدهاش بقى. الناس دي واضح إن عندهم مشكلة جامدة. إزاي مش فاهمين الكلام اللي بيقولوا عادل.

أنا موجهًا كلامي لأكثرهم انفتاحًا:

He is speaking in German, why can’t you understand him?

السائح مبتسمًا: I would, if it was German.

يا دولة يا بن الـ..

دي أطول سرحة حد سرحها بينا في التاريخ. كل الوقت ده وإنت أصلاً مفيش جملة واحدة تعرفها في الألماني.

طبعًا دولة لا يستسلم: يا بني دول بيتكلموا ألماني فصحى وأنا متعلم ألماني في الشارع. يعني إنت لو جبت واحد متعلم عربي فصيح ها يعرف يتكلم مع عم سعيد الفراش؟

تدخلنا سريعًا وانطلقنا مع السائحين في سيل من المحادثات الضاحكة -بالإنجليزية طبعًا- وسألناهم عما أعجبهم في بلادنا واستمتعنا بالتقاط الصور معًا. والحمد لله ربنا عداها على خير واتلمت الليلة.

بعد مغادرة السائحين وقبل أن ننفض وراءهم أمسكت ذراع عادل بقوة ورمقته بنظرة ثاقبة وقلت له في لهجة تهديدية واضحة: بص يا دولة.. أنا ها أعمل معاك اتفاق.. إحنا مش ها نحكي لأي حد على اللي حصل النهاردة ده، بس أوعى تجيب سيرة ألمانيا تاني نهائي. ماشي؟

دولة (في كلمة واحدة سريعة ورشيقة وواثقة): ماشي 🙂 🙂

..

الدرس: تحقق أو ادحض. فبقاء الافتراض في ذهنك لفترة طويلة لا يحوّله إلى حقيقة.

3 أفكار بشأن “كلمة واحدة تكفي”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *