كوما

    IMG_0003

    ليست هذه أول مرة أغادر فيها الحياة.
    فقد غادرتها كثيرًا من قبل.
    فكثيرًا ما تخيلت نعشي وأحبائي يحملونه، وتخيلت ملامحهم ودموعهم..
    ولكن هذه أول مرة أغادر فيها الحياة فعلاً..
    أو هكذا أظن، فلست متأكدًا..
    كانت حركة غبية لا تتناسب مطلقًا مع سني..
    حتى الآن، وبعد مرور كل هذا الوقت، لا أستطيع أن أسامح نفسي على هذا الغباء..
    كيف تصوّرت أنني سأتمكن من فرد جسمي من البانيو ومد يدي حتى حوض الوجه لأحضر الصابونة..
    أكان الخروج من البانيو بطريقة آمنة والعودة إليه كما يفعل العقلاء صعبًا حقًا؟
    كيف لم أعتبر بالمرات العديدة التي اختل فيها توازني من قبل؟
    هذه المرة، اختل توازني بقسوة، وانزلقت قدمي فارتطمت ضلوعي بجانب البانيو القاسي..
    تهشمت ثلاثة ضلوع دفعة واحدة..
    أحدها ضغط بقسوة على القلب حتى أوقفه عدة دقائق وأحدث به جروحًا قاسية..
    صوت الارتطام جعل ابني الأكبر يدفع باب الحمام بكتفيه ويدخل ليحملني ويهرع بي إلى المستشفى.
    لا زلت أتذكر كيف كان النائب يصرخ ليحضروا له السرير المتحرك.
    طبيب عظام نابه رأى جانبي فصرخ فيهم لعمل أشعة عليه.
    القلب عاود العمل بعد الصدمة، ولكن شيئًا ما في المخ توقف.
    كوما
    تلك الكلمة المرعبة.
    شيء في المخ توقف.
    فغاب وعيي، ورقد كامل جسدي بلا حراك.
    ولكني لازلت هنا.
    أشعر بكل ما حولي ومن حولي.
    أراهم وأشعر بدفء مشاعرهم.
    هذه ندى حبيبتي. تجلس بجواري وتمسك يدي تحدثني لساعات دون توقف.
    وهذا أيمن، يغالب دموعه ومشاعره ليظهر قويًا كما كان يراني.
    وهذه رفيقتي.. زال ما بيننا من خلاف ولم يبقَ سوى ذكريات حياتنا معًا.
    كلهم هنا. أشعر بهم، وأسمع ما يقولون.
    ولكني فقط لا أستطيع أن أرد عليهم.
    دموع مريم الصغيرة التي تنهمر فوق وجهي، وتقبيلها الحار ليدي كفيل بأن يعيد الحياة لمن بالغ في الموت.
    ولكنه لا يعيدني.
    “ما نقدرش نشيله من أجهزة الإعاشة.. يموت فورًا”.
    “وهو كده مش ميت؟”
    “دي حاجة ترجع لأهله بقى. إحنا شرحنا لهم الوضع”.
    “فيه حاجة في المريض ده غريبة ومش مفهومة”.
    “ها تعيش في الهلاوس بتاعتك بقى”.
    حتى أحاديث الأطباء في الردهات أسمعها.
    الوقت لا يمر هنا كما اعتدت.
    لا يوجد تسلسل زمني واضح، فاليوم يبدأ من أي ساعة، وتحدث فجوات كبيرة في الوقت لا أفهمها.
    على الأقل بعد.
    أشعر بالأحداث الواضحة، مثل زيارات أبنائي أو أحاديث الأطباء، أو عبثهم المستمر في جسدي.
    ولكني لا أشعر بالتسلسل الزمني المعتاد.
    كم سأبقى هكذا؟
    هل أنا…؟
    كيف لا يزال قلبي يتألم من أثر ضلعي الذي أوغل فيه؟
    كيف لا زلت أحمل كل هذا الحب لصغاري؟
    كيف نسيت ما ألم بي من حزن ومعاناة في حياتي؟
    أكره عندما يصبح الجو شديد البرودة هكذا..
    ستحدث فجوة كبيرة الآن ..
    آه..

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *