لازلت أذكر أول احتكاك لي بالموت.
كنت في أوائل المرحلة الابتدائية حين توفيّ جارنا “المعصراني”.
كان رجلاً طاعنًا في السن، وشديد التجهم والعصبية، خصوصًا مع الأطفال. لذا كان شخصًا مميزًا لجميع أطفال “العمارة” التي كنا نقطنها.
وذات صباح، سمعنا صراخًا وعويلاً يصم الآذان، وحين استفسرت أمي رحمة الله عليها، أخبرونا أن المعصراني قد لاقى ربه.
بذلت أمي كل ما استطاعت حتى تمنعني من فتح الباب ورؤية الجثمان وهو يهبط مسجّى بين يدي الرجال، ولكنها لم تستطع كبح فضولي.
كان مشهدًا مهيبًا.. لازلت أذكره بأدق التفاصيل وبالألوان الكاملة..
رجال كثيرون لا أعرفهم يتدافعون على السلالم الضيقة، يتخبطون في تزاحمهم لإخفاء مشاعرهم وحرصهم على حمل “الأمانة” وإنزالها أمام البيت.
الرجل في حياته كان مهيبًا، فإذا بالموت يضفي عليها المزيد من الهيبة والوقار.
مشهده وهو يهبط السلالم محمولًا، والرجال يتمتمون بآيات وكلمات التوحيد.
مشهد “كفنه” الأبيض وهو مربوط من قمة رأسه بشريط زهري.
صراع هائل لم يُحسم بين الخوف والفضول. لم يستطع خوفي أن ينتصر فيجبرني على مغادرة المكان، ولم يستطع فضولي أن يسيطر فأقترب من الجثمان أكثر. فظللت قريبًا أصطلي بنار الموقف وبعيدًا لا أشبع نهمي لمعرفة ما يجري. حتى حمله الرجال إلى مثواه الأخير.
كان هذا الموقف تقدمة درامية مفاجئة لفكرة الموت لطفل لم يفكر في الموضوع من قبل قط.
ولايزال المشهد عالقًا في ذهني حتى اليوم، رغم ما مررت به من تشكيلة من المواقف المحزنة مع الموت..
.. حركة سريعة للكاميرا لمدة أربعين سنة أو يزيد ..
في صلاة الجمعة في مسجد النور، ينادي المؤذن في الميكروفون فور انتهاء الصلاة أن هناك صلاة جنازة.
يتكئ على نفس العمود معي أب شاب ومعه ابنه في أوائل المرحلة الابتدائية.
الطفل (في مزيج مألوف من الخوف والفضول): “بابا.. هو فيه صلاة جنازة؟”.
الأب: “أيوه يا حبيبي..”، قالها دون أن يلتفت إلى طفله ويرى تلك اللمعة التي أعرفها أنا جيدًا..
الطفل (مرتعبًا): “يعني هنشوف الميت؟”.
هنا يتطوع الأب فيأخذ ابنه بمنتهى الأريحية في جولة كلامية مرعبة عن الموت.. ثم ما يلبث أن يبدع ويقوم بـ “شخصنة” الموضوع المجرد ويتحدث عن أنه هو أيضًا سيموت ذات يوم وأن على الطفل أن يدرك ذلك وأن يتقبل هذه الحقيقة كواحدة من ثوابت الحياة.
الأب تحدث دون حتى أن يفكر فيما يدور في ذهن طفله الذي لم يعد بوسعه أن يخفي فزعه.
لم أستطع أن أمنع نفسي من التدخل وقلت للأب بنبرة هادئة: “فلنكتفِ بهذا القدر”.
انتبه الأب إلى أنها “زوّدها”، وقبل أن أكمل كلامي قامت صلاة الجنازة فصليت وأنا أكاد أسمع خفقان قلب الطفل المسكين.
الموت من الموضوعات شديدة الحساسية بالنسبة للجميع وخصوصًا الأطفال. وإذا كنت سعيد الحظ ولم تحتك به بشكل مؤلم وأنت صغير، فعليك أن تنتبه ولا تعرّض طفلك لهذا الألم، على الأقل ليس تطوعًا.
احكِ لنا عن موقف لك مع الموت.