لحظة إدراك فريدة

    خرجت من مصلحة الضرائب والعفاريت تتقافز أمام عيني من شدة الغضب.

    المشي –رغم شدة الحر- علاج جيد لتبديد الشعور السلبي.

    خرجت من الشوارع الداخلية المظللة لجاردن سيتي إلى شارع القصر العيني، ومشيت ملتصقًا بواجهات المحلات اتقاءً للشمس الحارقة.

    تعاركت –في مخيلتي- مع كل من قابلته هناك، وأوسعت ضربًا في عين خيالي كل من ضايقني.

    ولكن غضبي لم يكن يهدأ، بل ربما زادته معاركي الوهمية تأججًا..

    حتى رأيته..

    طفل في بداية عمره، يجلس في حجر أمه على جانب الطريق.

    دماغ الطفل منتفخة للغاية، والطفل لا يكاد يتحرك، وواضح أن قدراته الذهنية هبطت لأدنى حد لها.

    مررت بالطفل وأنا غاضب، فامتص الموقف كل غضبي.

    تحركت بقوة الدفع الذاتي عدة خطوات للأمام، حتى عالج عقلي الموقف وأدركت حجم مأساة الطفل.

    عدت خطوات إلى الوراء حتى وقفت أمام الأم مباشرة. تسمّرت مكاني ربما دقيقة أو أكثر دون أن أنطق بكلمة.

    “اسمه إيه؟”

    “محمد”

    لم أكن بحاجة إلى سؤالها عن حالته، فمعلوماتي الطبية البسيطة سمحت لي بمعرفتها دون سؤال: حالة استسقاء شديدة في الدماغ. حالة طبية نادرة تؤدي إلى تجمع السوائل في الدماغ مما يؤدي إلى تضخيم الرأس والضغط بشدة على أجزاء المخ مما يعوقه عن أداء وظائفه.

    بعض الحالات يمكن التدخل فيها جراحيًا لشفط السوائل وتخفيف الضغط على أجزاء المخ الحساسة، والبعض الآخر يكون فتاكًا.

    ولك أن تخمن ما كانت حالة محمد.

    الأم تشرح حالة ابنها، وما قامت به هي وأبوه حتى الآن، وما يريدان أن يقوما به، وتريني الأوراق التي تدعم كلامها.

    لم أنظر إلى أي أوراق قدمتها، فالصدق يتفجر من كل حرف تنطق به.

    عقل الأم يرفض أن يستوعب الرسالة الواضحة للأطباء، وتصمم على إجراء المزيد من العمليات خارج المستشفى الحكومي، عمليات لا تملك من ثمنها الكثير، فألجأتها إلى الجلوس على قارعة الطريق.

    تتوقف الأم كل برهة لتربت على رأس وليدها بحنو، وكأنها تخبره أنها معه تشاركه محنته.

    ثم ترتسم على وجهها معالم الألم والعجز.

    ثم ينتقل الألم والعجز من عبراتها إليّ.

    أنظر إلى الطفل ولسان حالي يقول: “هذا الطفل جاء إلى الدنيا لهدف آخر خلاف أن يعيش حياة طبيعية”.

    قد ينعم الله عليك فتفهم، أو يحرمك الفهم فتظل تتساءل.

    وبينما أتحدث مع الأم، جاءت فتاة عشرينية ووقفت أمامها، وسألتها، ودعمتها، وأخذت بياناتها، ووعدتها بالمتابعة والإسهام.

    حالة الفتاة لا تُنبئ أنها ميسورة للدرجة التي تجعلها تساعد كما فعلت، ولكن بعض البشر يرتقي، ويؤثِر، ويبذل، دون أدنى تردد.

    ودّعت محمدًا وأمه وخطوت بعيدًا في اتجاه المترو، وأنا أردد: “الآن قل لي، ما هي مشاكلك؟”.

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *