معظم الأمور في حياة المراهقين تبدأ بدعوة من أحد الأصدقاء.
“يللا بينا نروح الاستاد نشجّع الأهلي”.
كنا في عام 1974 أو 1975 لا أذكر على وجه اليقين، ولكني أذكر أني كنت في المرحلة الإعدادية وأنها كانت مباراة بين الأهلي والسويس. كانت فكرة الذهاب إلى الاستاد ورؤية اللاعبين وتشجيعهم من الأفكار شديدة الإثارة لفتى يخطو أولى خطواته نحو المراهقة ويريد أن يثبت لنفسه قبل أن يثبت لأصحابه أنه صار شخصًا بالغًا يملك زمام نفسه.
لم تكن قلة القروش أو صعوبة الوصول عائقًا.
تشعبطنا في الأوتوبيس وقفزنا من فوق سور الاستاد ورشونا رجل الأمن وحضرنا المباراة.
لم يكن الأهلي في أحسن أحواله، فصبت جماهيره غضبها على الحكم. كنت أنا أيضًا أشتم الحكم، رغم أني لم أكن أعرف لماذا أشمته بالضبط (كان فهم “الأوف سايد” مسألة عويصة للغاية بالنسبة لي يومها).
بعد انتهاء المباراة (ربما بهزيمة أو تعادل الأهلي)، لم تكن الجماهير سعيدة بأي حال. قام بعض المشاغبين بتجميع الأوراق وأشعلوا فيها النيران، وقام الأكثر شغبًا بتكسير الكراسي ورفضوا مغادرة الاستاد.
انتشر الأمن بهدوء شديد في قاع المدرجات. وبدءوا بالضغط على الجماهير لصرفهم من الاستاد.
ويا محترم.. بمجرد أن خرجنا من بوابة الملعب إلى ساحة الاستاد حتى سمعنا هرجًا ومرجًا شديدين.
“آه.. يا ولاد الـ… اجري ياض.. يا لهوي.. فيه ضرب جامد يا وله”..
وتخللت هذه الكلمات أصوات “طرقعة”.. و “حفيف”.. و “صليل” وكل ما يخطر على بالك من أصوات الاحتكاكات..
كنت قصير القامة بحكم سني، فلم أكن أرى سوى مؤخرات وظهور من أمامي 🙂 ولكنني كنت أشعر بفرائصي ترتعد بالفعل.
لم أكن أعرف ما يجري.. ولكنني كنت أجري 🙂
كنا نندفع بدون هدف.. فهناك أمر جلل والمصيبة أني لم أكن أعرف هذا الأمر بعد..
وفجأة.. وجدت نفسي أمامه..
وجهًا لوجه..
وكأنه ملك الموت يخيّم فوق رأسي ليحجب عني نور الحياة..
جندي ضخم الجثة بشارب كبير كأنه مصنوع من ليف أسود ..
ما أن ظهرت أمامه.. حتى هوى بشومته الجبارة فوق جبهتي.
طااااااخ.. في أم ناصيتي.
شعرت بخدر غريب في رأسي.. ثم بسائل أحمر لزج يخر بغزارة فوق وجهي.. وهويت على الأرض..
لم يتوقف الجندي عندي كثيرًا.. فقد كان هو وفريق كامل من زملائه يلاحقون كل من يخرج فلم ينجُ منا أحد.
إنت وحظك شومتك ها تيجي فين.
فهناك من جاءت شومته في رأسه فشجته.. وهناك من جاءت في ركبته فأصابته بعرج مؤقت.. وهناك من جاءت له في ظهره فحفرت فيه أخدودًا كأخدود البحر الأحمر..
صديقي صاحب الاقتراح المهبب بالذهاب إلى الاستاد نال شومته في مؤخرته.
من العيب أن أقص عليكم ما حدث معه بالضبط، ولكن يكفي أن أخبركم بأن صدمة الشومة أعادت توزيع الكتل الدهنية في مؤخرته.. إلى الأبد 🙂
لا أدري من سحبني من أمام ذلك الجبار ذي الشومة والشارب.. ولكنني وجدت نفسي أمام عربة الإسعاف..
لم يكد الطبيب ينظر إلى وجهي.. فقد أدرك أن الإصابة “طفيفة”.. وفي لمح البصر رفع خصلات شعري و دلق الماكروكروم على قطعة قطن كبيرة ولصقها فوق الجرح ثم لف رأسي وصرفني من أمامه.
لم يكن هناك وقت لإجراء أي فحص فعلي على أي مصاب، فالإصابات كانت تترى.
لا يزال لهذا الجرح أثر في جبهتي حتى اليوم.
وحتى اليوم لم أفهم لماذا ضربني العسكري بهذه الشدة.
لماذا كان يضرب بهذه القوة الغاشمة وبدون تمييز أو تفكير.
تذكرت هذه القصة بسبب أنس.
أصغر ضحايا كارثة بورسعيد.
ولكن في حادثة أنس، لم يكن الجندي أبو شومة في انتظاره ليشج له رأسه..
كان الجندي مشغولاً بمشاهدة الحدث..
وترك الجاني ذا اليد الآثمة..
ليُلقي بأنس من فوق سور الاستاد..
ويُلقي معه همًا ثقيلاً في قلب كل من قرأ عنه أو شاهد صوره.
كان الله في عون المسكين.. والمسكينة.. فهما سيشقيان برحيلك..
وكان في عوننا.. فلا أدري أي نوع من العطور يمكنه أن يزيل آثار دمائك من أيدينا..
رحمك الله يا أنس.. وأنار بك طريق أبويك إلى الجنة..