من مذكرات بنت صغيرة

غبت عني سنين عمرك كلها. اختطفك هذا البلد الكئيب، حيث حرارة القيظ تُختزن في نفوس الناس عنفًا وغلظة. اخترت أن تعيش في هذا البلد الكئيب وحيدًا بعيدًا عني. وغيابك -إن كنت لا تدري- قهرني، وأضاع الجزء الأكبر من إنسانيتي.

لن أحدّثك عن جارتي في مثل سني، التي كان أبوها يلاعبها في فناء منزلهم. كنت أجلس في غرفتي أراقبهم. أتخيل نفسي مكانها وأنت تجري خلفي. أتخيل أنني أختبئ منك وراء هذه الشجرة النحيلة التي لا تداري سوى نصف وجهي. أتخيل أنك تراني ولكن تتصنع -كما يتصنع أبوها- أنك لا تراني. وأتخيلك تنطلق فجأة خلفي صارخًا مثلما ينطلق هو خلف ابنته، فأجري أنا -كما تجري هي- ضاحكة، متشبعة بالفرحة والأمان.

أشتاق إلى أن تمشي معي إلى مدرستي.. أن تضع يدك الحانية فوق كتفي. كثيرات من زميلات فصلي يأتين مع أبيهن، فلماذا لم تأتِ أنت معي يومًا؟ ما الذي منحوكَ إياه في هذا البلد الكئيب يعوّضني عن غيابك، أو يجبر فقدي لروحي في انتظارك؟

غبتَ سنين عمري، ثم ها أنت تأتي إليّ.. لتموت!

حين علموا بمرضك لم يمهلوك، ولم يصونوا عمرك الذي أفنيت لهم. “عُد إلى أهلك ليراعوك”، هكذا أخرجوك من بلاد القيظ والكآبة.

تعود إليّ وقد أوشك عمرك على النفاد. لم تبقَ أمامك سوى بعض الأسابيع وبعض الأمنيات.

أنظر إليكَ فلا أعرفك. فقد أكل المرض وحياة الغربة كل قوتك وكل حيويتك وكل روحك.

لست أنتَ من تخيلته في أحلامي. فأنتَ في أحلامي شابًا قويًا. تحملني وترفعني إلى الهواء.. تجري خلفي فتهتز أرضية الغرفة تحت قدميك.. تمسك يدي وأنا أعبر الطريق مسرعةً فتقبض عليها حتى تكاد تختلف أصابعي.

في أحلامي عشقت قوتك، وفي يقظتي كانت دافعي خلال يومي. فكانت زادي في عملي، وبسمتي مع صديقات عمري، وصمودي أمام من تهافتوا لنيل جسدي.

كانت هذه قوتك، فسامحني إن لم أقبل ضعفَك.

أغسل لك ساقك بماء وملح كما أشار الطبيب، فأرى أدران قدمك تختلط بأحزان قلبي.

من فضلك، لا ترحلِ الآن. قم من سرير موتك هذا وشاركني ما بقىَ من عمرك.

وإن صممت على الرحيل، فمن فضلك.. لا تمُت هكذا. مُت قويًا.

سأسامحك على ما ضاع من عمري في غيابك، إن قمت من فراش ضعفك الآن وأنقذت أحلامي.

من فضلك، انهض سليمًا معافًا ولو لأيام معدودة.. كوّن لي ذكريات حقيقية تعفيني من خيالات أحلامي.. سر معي في هذا الطريق.. دافع عني أمام هؤلاء الفتيان.. ازأر بصوتك في بيتنا حتى ترتج جدرانه أمانًا.. اصرخ حتى في وجهي وانهرني.. وقل لي لا تفعلي هذا مرة أخرى.. قل لي إنك تخاف عليّ، وإن مبلغ مبتغاك أن تحميني.

فأنتَ أبي.. والآباء يحمون بناتهم.. فاحمني.

وإن متَ.. فلا تمت هكذا. مت قويًا حتى تأتيني في أحلامي قويًا.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *