أصعب شيء على إنسان في مثل سني هو أن يصحو من النوم فلا يجد شيئًا يشغله 🙂
معظم الأفكار التي غيرت العالم، وأيضًا معظم الكوارث السياسية والعائلية، بدأت من منطلق مشابه. شخص كان لديه فراغ أكثر من اللازم، فخطرت له فكرة استحوذت عليه وبدأت التفاعل المتسلسل الذي يغير العالم بأسره، او العالم الشخصي، أيهما أيسر.
يعني مثلاً –وبدون الدخول في تفاصيل كثيرة- واحد صاحبي صحي من النوم ما لاقاش حاجة يعملها راح اتجوز
بالأمس حدث معي موقف مشابه، ولكنه أدى إلى تسلسل مختلف تمامًا من الأفكار (الحمد لله)..
صحوت من نومي، وتوضأت وصليت، وشربت الشاي الأخضر، وجلست إلى اللابتوب وانتهيت من العمل المتراكم لدي.
كل هذا ولا تزال الساعة السابعة صباحًا 🙂
نظرت من البلكونة فوجدت الجو مشمسًا بشكل لا يُصدق.
شمس الشتاء الدافئة في أبهى صورها.
تخيّل هذه الشمس التي افتقدناها كثيرًا على مدار الأيام السابقة، تشرق بأشعتها الذهبية الدافئة ولا تجد من ينهل منها.
بالتأكيد لا يمكن أن أسمح بهذا..
دخلت البلكونة فإذا بالأشعة الذهبية الطازجة تفرغ شحنتها الحرارية على جلدي.
شعرت بكل خلايا جلدي تشكر الشمس.
أشكرك أيتها الشمس الدافئة على تلك النعمة السابغة.
نظرت تحت موضع قدميّ.. فوجدت “الجردل” الكبير المملوء بالغسيل الذي لم يسمح البرد بنشره في الليلة السابقة.
منذ متى لم أنشر غسيلاً؟
يااااه.. منذ ثمانينيات القرن العشرين، حين كنت أعزب في الرياض.
شعرت برغبة في أن أفعل شيئًا مفيدًا وفي نفس الوقت يسمح لك بالتنعّم بتلك الشمس الدافقة.
بدأت في نشر الغسيل.
وما أن ملأت الصف الأول من أحبال الغسيل وشبّكت الملابس بالمشابك الخشبية، حتى وجدت أمرًا أذهلني.
لقد تسربت أشعة الشمس الحارة إلى الغسيل وبدأت تدغدغ جزيئات المياه فيه وتحولها إلى بخار ماء.
كان بخار الماء ظاهرًا لا تُخطئه العين.
الإنسان الطبيعي في مثل هذه الحالة سيتجاهل مخه الموضوع ويقول له “عادي، بخار ميّه.. ليس أمرًا ذا بال.. no big deal يعني”..
لكن وصف “عادي” لا ينطبق عليّ بالطبع 🙂
لا أستطيع أن أحصي عدد الأسئلة التي خطرت على بالي وقتها، عن تسلسل التفاعلات التي أدت إلى هذا التبخر البسيط..
إذا أردت أن تعرف أصل الحكاية، فلن تبدأ –بالتأكيد- من البلكونة، أو من حبل الغسيل الموجود أمامك..
عليك أن تبحر إلى أبعد من هذا..
عليك أن تعود إلى الوراء كثيرًا..
إلى الشمس.. أمنا الحقيقية، ومصدر حياتنا، ومركز جاذبيتنا..
تخيّل؟! بدأ الأمر بذرتيّ هيليوم في مركز الشمس..
اتحدتا تحت وطء الضغط الشديد في هذا المركز الملتهب..
وربما استمرتا في قلب الشمس ملايين الأعوام، قبل أن تشق طاقة اتحادهما طريقها إلى سطح الشمس لتهب حرارة خالصة في
اتجاهنا..
وسافرت هذه الحرارة 150 مليون ميل حتى وصلت إلى الأرض..
ثم هبطت وهي لا تزال تحمل بعض شحنتها الحرارية على حبل غسيلنا..
لتضرب جزيء الماء فيمتص حرارتها ويتحول إلى بخار ماء يهفو إلى السماء ليعاود دورته الأبدية..
تخيّل كم ذرة لا تزال حبيسة في قلب الشمس تنتظر أن يُفرج الانصهار النووي عنها ويفك أسرها..
لو تأملت.. لشعرت بهذه الذرات تتسابق لتحظى بهذا التحول المدهش الذي تنتج عنه الحرارة الواهبة للحياة..
هذه الحرارة المحتملة التي تهب على مختلف الكائنات الحية فتبث فيها دبيب الحياة..
هذه الحرارة التي تشرأب أعناق كل النباتات تلهفًا لاستقبالها..
لو كنت زرت الغابات مثلي، لرأيت الأشجار السامقات تتصارع على مساحة لامتصاص أشعة الشمس..
ولكن بعض ذرات الحرارة قُدّر لها أن تسير حتى حبل غسيلنا، فتخبط عقلي بتسلسل أفكار ممتن، وتدغدغ جزئيات الماء، فتحولها من حالتها السائلة إلى بخار..
إلى أين ذهب هذا البخار؟
تُرى كم من المسافات سيسافر في الغلاف الجوي قبل أن يعاود الهبوط إلى الأرض؟
وأين سيهبط؟
وأي نبتة أو مخلوق سيشربه؟
وأي بشري سيستحم به ليغسل به أدرانه؟
يا الله..
يكاد هذا التعقيد يفتك بعقل اللبيب..
لم يخرجني عن هذا السرحان الشاكر لأنعم الله سوى صوت نفير قوي لسيارة تمر من أسفل بيتنا..
صوت نفير مزعج، أتى من مكبر صوت صغير، يستمد طاقته من بطارية السيارة، التي تستمد طاقتها من مولد الكهرباء، الذي يستمد طاقته من حركة المحرك، الذي يستمد طاقته من حرق البنزين، الذي أتى من البترول القابع في طبقات الأرض، الذي تكوّن من رفات ملايين الكائنات التي جالت على الأرض يومًا، وظل قابعًا في قلب الأرض ملايين السنين..
تخيّل؟!
🙂