مشهد 1
الثامن والعشرون من سبتمبر عام 1970.
يوم جلل في حياة مصر، ويوم أشد جللًا في حياة طفل لم يكمل عامه العاشر بعد.
في هذا اليوم رأيت شيئًا لم أره من قبل قط.
رأيت أبي يبكي.
مشهد درامي من الدرجة الأولى.
أمي تجلس على أريكتها، وشعرت بخطب شديد ألم بأبي فنظرت إليه بقلق بالغ وسألته: “فيه إيه؟”.
أبي يختنق بالبكاء ويقول لها: “عبد الناصر مات”.
لم يستطع أن يكمل عبارته، فتحشرج صوته وانهمر الدمع قسرًا على وجنتيه.
رأيت دموع أبي فاهتز كياني.
أبي رجل شديد بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. رجل صلب الجسد قوي العود.
لم أسمعه يومًا يشتكي ضعفًا، أو يخشى رجلاً، أو يحزبه أمر، حتى عندما ألمت به نوازل الحياة التي يئن تحت وطأتها الكثيرون.
وجود أبي في المنزل كان هو التجسيد الحي لمعنى “الشعور بالأمان” بالنسبة لي.
الصخرة التي ظللت أستند عليها، حتى بعدما صار شيخًا كبيرًا لا تقوى ساقاه على حمل جسده الضعيف دون تلك العصا التي يتكأ عليها.
وحين رأيته يومها يختنق بالبكاء وتغلبه دموعه، اهتزت الدنيا من حولي.
أبي يبكي.
وحتى وقتها لم يستسلم لدموعه، وإنما فر من البيت، ربما ليجد بعض المواساة مع الملايين من الناس الذين خرجوا من كل ربوع مصر يتواسون فيما بينهم.
..
مشهد 2
كنت أهرب منها في كل مرة تزور ابنها، لأنها كانت تصمم على احتضاني حتى أكاد أختفي تمامًا داخل جسدها.
كان أبي يحتفي بزيارتها أشد احتفاء، وينادينا واحدًا وراء الآخر لكي نسلّم عليها.
كنت أهرب منها حتى لا يعد هناك مفر وأسمع أبي يقول بنبرته الحازمة: “جمال.. تعالى سلّم على ستّك”..
كنت أدخل في أحضانها مستسلمًا لجلسة من المخمضة الممزوجة بحب وحنان جارفين حتى ينتهي دوري من جلسة السلامات الطويلة.
كبرت هذه المرأة الأبيّة حتى بدأت تفقد إدراكها بمن حولها فبقيت في بيت عمي حتى أذن الله برحيلها.
كنت مع أبي حين جاءه الخبر.
أفرغ رسول الحزن الخبر على مسامعه حتى ترجرجت جنباته.
كانت عيوني ترقب عيونه، ومشاعري تنتظر أذنه بالتحرك.
إن بكيت سأبكي، وإن تماسكت سأتماسك.
تماسك أبي وأكمل كل واجباته تجاه أمه، حتى أدخلها قبرها وفك عنها رباطها وقرأ لها.
وعندما خرج من باب القبر ليغلقه عليها انفجرت دموعه التي ظلت يكتمها.
“الله يرحمك يا جليلة”.. هكذا قال لها وهو يغلق القبر عليها.
في ذلك اليوم أيضًا هرب أبي من دموعه إلى جموع المعزين.
في ذلك اليوم رأيت أبي في ثوب جديد. رأيته رجلاً من ماء وطين مثل بقية البشر، وتنازلت عن طيب خاطر عن صورة “الرجل الخارق” التي كنت أحتفظ له بها في مخيلتي، ليحل محلها الكثير من الحب والتقدير حين أدركت –ربما لأول مرة في حياتي- أنه يعاني ويتألم مثل الجميع، ولكنه فقط اختار عدم البوح.
لا أذكر أني رأيت دموع أبي في أي موقف آخر بخلاف هذين الموقفين، حتى عندما أدرك يقينًا أنه راحل عن هذه الدنيا.
رحمك الله يا أبي..