كنت في الصف الأول الإعدادي حين امتدت يد الموت لتغتصب ذلك القلب الصغير الذي لم يعرف معنى الحياة بعد.
عصام هو الأخ الأصغر لصديقي وجاري.
كان أصغر مني بعام أو عامين، ولكن طيب نفسه وتوافقه الكامل معي، جعله صديقًا لي أكثر من أخيه.
كان رجلاً في ثياب طفل صغير. لا يغدر، ولا يخون، ولا تتبدل مواقفه.
كنا نجوب القاهرة بـ “الترولي” فنذهب إلى كل أماكن النزهة معًا، وحظينا بمغامرات لا تُعد معًا.
“تشاقينا” كثيرًا جدًا، ولعبنا كثيرًا جدًا، وذاكرنا كثيرًا أيضًا.
كانت لنا نفس الهوايات، مثل جمع الطوابع، ولعب “البلي”.. وبالطبع كنا نلعب الكرة.
وفي عصر يومه الأخير، ذهبنا مع بقية الفتيان لمكان لعبنا الأثير، الشارع الواسع بجوار سور جامع الحاكم بأمر الله الذي يفضي عبر “باب الفتوح” إلى شارع المعز الشهير. ولأننا كنا أصدقاء للغاية، كنا دومًا نلعب في نفس الفريق، ونتجاور في مراكز اللعب، ونحابي أحدنا الآخر في تمرير الكرات.
وبينما نحن متحمسون ومندمجون في اللعب، أتت عربة الموت.
عربة نحيفة يجرها حصان مخصصة لنقل الطوب. عجلات العربة هي عجلات سيارات النقل الضخمة.
العربة تكاد ترتفع في الهواء من فرط سرعتها، وتنطلق كالسهم إلى قلب مجموعتنا لتختطف أفضل من فيها.
وكأن سائقها الأرعن هو ملك الموت نفسه بثيابه السوداء ومنجلته المهيبة التي يحملها في يده.
مرقت السيارة من بيننا في ثوانٍ معدودة.
مرقت بعد أن حققت هدفها المذموم.
كان ظهري للعربة، وحين التفت لها سمعت صرخات عصام وهو مُلقى تحتها وعجلاتها الضخمة تمر فوق بطنه لتجبره على إفراغ ما فيها.. وسمعت أنفاس الحصان اللاهثة وكأنه أدرك عظم ما فعل.. وسمعت غمغمات وهمهمات ملك الموت وهو ينتزع بيده تلك الروح البريئة..
أسرعت إلى صديقي وأنا لم أستفق بعد من الصدمة..
- “عصام!!”
- “أنا هاموت يا جمال”
كان اسمي هو آخر كلمة نطق بها، فقد غاب عن الدنيا فورًا، ولم يعد إليها مطلقًا.
لم تسعفه صرخاتنا وحرقة أخيه، ولم يسعفه الشباب مفتولو العضلات الذين حملوا جثمانه الرقيق وطاروا به إلى المستشفى القريب. لم يسعفه من أمر الله شيء.
مات عصام.
ولازلت حتى اليوم أتعجب كيف أدرك هذا الطفل الصغير أنه سيموت. لقد قالها بيقين من يعرف.
كان المصاب جللًا لعمارتنا كلها، بل للحي بأكمله.
فرغم عدد الأسر الكبير في بيتنا، فقد كان البيت كله في الحقيقة أسرة واحدة.
ذلك النوع من التكاتف الذي تقرأ عنه في الروايات أو تراه في الأفلام القديمة.
اتشحت كل النساء بالسواد، وصرن جميعًا مكلومات، وشاكراتٍ سرًا أن العربة لم تحصد إلًا روحًا واحدة.
كنت أرى أمي وقلبها يذوب خوفًا علي، وأسمعها وهي تسأل الجارات الأكثر خبرة عما يجب أن تفعله لتخفف عني.
ولكن الفتيان يعرفون أكثر. فرغم صغر سننا، تكاتفنا معًا، وتقابلنا دون كثير كلمات، وكأننا نقدم لبعضنا دعمًا معنويًا لنجتاز هذا الحادث الجارف وتلك المشاعر الغامرة.
كانت هذه هي أول مرة أعرف طعم الحزن، وأجرب إحساس الصدمة والذهول، وإحساس الضعف أمام قوة ذلك الجانب المظلم من الدنيا..
أيام ثقيلات.. فشهور أثقل.. فسنوات عديدة.. حتى قرر طارق أخو عصام أن نلعب بنفس الكرة التي كنا نلعب بها وقت الحادث.
انحفرت تعبيرات الوجوم على وجوهنا ونحن نلمس الكرة..
ثم تغلبت الرغبة في الحياة..