خرجت إلى الشارع مسرعًا خلف أبي، الذي كان لا يزال يمسح الدمعات القليلة عن جفنيه. وحين خطوت عدة خطوات إلى نهر الشارع الصغير تحول جزعي على بكاء أبي إلى فضول طاغٍ.
كل الناس في الشارع..
رأيت الكثير من أصدقائي الذين تسابقوا ليخبروني بأمر سبق أن عرفته بالفعل من أبي.. أن الزعيم المفدّى مات.
لم أستوعب الأمر بسرعة، فقد كان جزعي على أبي هو المسيطر، ومعلوماتي عن عبد الناصر شحيحة، ولا تتعدى الأناشيد التي كنا نتغنى بها له في المدرسة، وبعض الأحاديث التليفزيونية التي سمعتها له دون أن ألقي لها كثير بال.
رأيت “عصامًا” -لعلك تذكره- فشجّعني على الذهاب إلى ميدان التحرير لحضور جنازة الزعيم.
“كل وسائل المواصلات ببلاش، وكل الناس هناك”، هكذا قال لي ليحثني على الذهاب معه.
ولأننا كنا صديقين مقربين ونذهب إلى كل مكان معًا، لم يحتج إلى كثير من الإلحاح ليقنعني بالانضمام إليه في تلك المغامرة. في الحقيقة، ربما لو صبر قليلاً هو لألححت عليه أنا، فالفضول كان قد تملكني بالفعل حين سمعت أن “الناس كلها هناك”.
ركبنا الترام إلى العتبة، وبعدها شققنا طريقنا بصعوبة بالغة في وسط البلد حتى وصلنا إلى ميدان التحرير.
الميدان لا يوجد به موطأ لقدم تقريبًا. كل الناس يتحدثون عن الزعيم، وكلهم مصابون بالجزع ويعتلي وجوههم الحزن والهم، والكثير منهم يبكون بصوت مسموع، والكثير منهم يحكي القصص عمن رموا أنفسهم من فوق الكوبري أو أغمى عليهم من شدة الأسى على الزعيم.
لم أرَ في حياتي جموعًا حاشدة هكذا، ولا حتى في أيام ثورة يناير..
موت هذا الرجل كان حدثًا جللًا في حياة الناس، بلا شك.
بقينا في ميدان التحرير ومشينا على كوبري قصر النيل وعرفنا أن الجنازة فاتتنا وأننا لن نرى جثمان الرجل الذي أثار رحيله كل هذه الشجون.
بعد ساعات، عدنا أدراجنا إلى بيتنا، لنجد أن القصة لم تنتهِ، ولنجد كل رجلين يجلسان معًا لا يتحدثان سوى في هذا الأمر.
عرجت على أبي في مصنعه الصغير فرأيته يعمل بهمة، فاطمأننت عليه وأدركت أن الحياة حتمًا ستستمر.. حتى إذا مات الزعيم.